الصلاة في الأماكن العامة – التحدي الذي يواجه نساء الباكستان

زهرة بَجْوة

عمل فني لريا أحمد - الهند
عمل فني لريا أحمد – الهند

إن قيادة السيارة وسط شارع المول التاريخي في لاهور هي نوع من السفر. أحاول خلالها أن ألملم شيئاً من دلالات عصرٍ مضى. في ذلك الجزء العتيق من مدينة لاهور، ما زال هناك شيئاً باقيا من الثقافة، والتقاليد، والتاريخ، والعراقة، والمقاومة المتواصلة.

أمرّ من محكمة لاهور العليا، إلى الأزقة التي تأخذني إلى مكان عملي. حيث يقع مكتب المحاماة الذي أعمل به، بالقرب من مسجد النمرة. اليوم هو يوم الجمعة، أرى زملائي يذهبون لتأدية صلاة الجمعة. يتحرك حشد من الرجال باتجاه الجامع، على صوت الأذان الداعي بأن يؤدي المؤمنون الصلاة. المؤمنون، بمعنى كافة المؤمنين، جميعهم. رجالاً ونساء. ولكن لا أرى أية امرأة. أفكر في سريرة نفسي: لماذا يتم تغييب النساء من هذا المشهد الديني؟

شهد تاريخ باكستان، مزيجاً من العوامل الدينية والسياسية، التي أثرت على الديناميات الخاصة بالمشاركة العامة للنساء. كانت من أبرز آثار تلك العوامل، ما صدر عن الجنرال ضياء الحق عام 1979، بفرض مجموعة من التعليمات الدينية، القائمة على محاسبة سلوكيات النساء الباكستانيات، على شكل دوريات التوجيه. يرتبط بذلك أيضاً مفهوم “البردة” (الستار)، الذي يفصل بشكل واضح بين المساحة العامة والخاصة، بشكل يعزل النساء عن عالم الرجال. كانت هناك أجندة وطنية ذات بعد سياسي، قائمة على تتبع تحركات النساء، بشكل ساهم في عزل النساء عن المساحة العامة بشكل ملحوظ وحصرهنّ في مساحات محددة وخاصة. وقد اصبح الحجاب جزءاً من الهوية الوطنية للباكستانيات، وبمرور الوقت، لم تعد البردة عاملاً يحدد السياسة الوطنية، وإنما أصبحت من معايير الزمن الجديد.

و مثلما يعاني كل نظام من منغصات في فرض سلطته، لم تقابل أوامر الجنرال ضياء بسهولة. نهضت النساء وتمردن وعارضن هذه المعايير. جاء ضمن هذا الحراك، عمل منتدى حراك النساء، والذي يعد إحدى المنظمات التي عبرت عن مقاومتها للقمع السياسي. في تلك الفترة، سطع نجم “اقبال بانو”، المغنية الشهيرة، باعتبارها شخصية تعارض النظام الديكتاتورى السائد، وفي عام 1985 حين أدت أغنية “هوم دخينجه” (سوف نشهد)، التي كتبها الشاعر الثوري فايز أحمد فايز، دخلت التاريخ الباكستاني باعتبارها امرأة تعبّر عن المقاومة في وجه الفاشية. إن القصيدة، كما غنتها بانو، تحمل دلالات متعلقة بمقاومة البطش والظلم، والتي جاءت بصوت امرأة وهو أمر سعت القوانين المستحدثة المتتابعة لقمعه وإخضاعه.

إن الوقت هو أكبر دواء، ومنذ الثمانينات، أخذت القيود التي كانت تجبر النساء على البقاء في منازلهنّ تتغير، على الأقل إلى حدٍ ما. بصفتي امرأة باكستانية، أستطيع أن أسافر وحدي في مدينة لاهور حيث أعيش. غير أننا نصطدم بنظام الاختلافات الاجتماعية، حين يكون التغيير ملموساً فقط في مناطق محددة. ففي قرية جدتي التي تبعد ساعتين فقط عن لاهور، يلاحظ أن هذه الفروق جلية في المساحات العامة. ربما لا يكون المشي في الشارع مهمة صعبة، غير أن النظرات الاجتماعية يمكن أن تطارد استقلاليتي حين أقرر بمحض إرادتي أن لا أمشي دون محرم (ذكر يرافقني من أحد الأقارب).

بطبيعة الحال هناك رواسب من الماضي هنا وهناك ، غير أنني أرى النساء اليوم يصارعن من أجل المساحة العامة، في محاولة لاستعادة ما كان ملكاً لهنّ يوماً ما، ويثبتن وجودهنّ في المساحات السلبية التي تم خلقها لفصل النساء عن الرجال.

لمدة من الزمن، سعت النظم الدينية إلى الفصل بين الجنسين وتهميش المرأة باعتبارها “الآخر”، وأفرز ذلك واقعاً، نجد فيه أن الكثير من الجوامع باتت محصورة على الرجال فقط. وفي المساجد الموجودة في الأحياء الغير رئيسية، يكاد يغيب أي مصلى للنساء. هناك مولات (مراكز للتسوق) في لاهور، تتضمن مصليات خاصة للنساء، ولكن هذا غير كافٍ لسد الفجوة القائمة الناجمة عن محدودية أماكن الصلاة للإناث في المساجد. إنه أمرٌ جوهري، لأن المساجد هي ليست فقط مؤسسات دينية، وإنما هي أيضاً مواقع اجتماعية هامة. المسجد لا يربط المؤمنين فقط، وإنما يخلق بينهم حساً من الانتماء. إن إقصاء النساء واستبعادهن من مراكز الصلاة، وثيق الصلة باستبعادهن من المجتمع ومن هذا الانتماء.

حين هاجر الرسول (ص) من مكة إلى المدينة، كانت المهمة الأولى الواقعة على المسلمين، خلق أسس لبناء جماعة المؤمنين. كانت دلالة الجامع هنا لا تنحصر فقط على كونه مركزاً للنشاطات الدينية في ذلك الوقت، وإنما أيضاً كمكان للتعليم، والتكاتف، والتضامن الاجتماعي . ووفق للذين هاجروا إلى المدينة. هناك العديد من الأمثلة، التي تبين أن النساء كن متواجدات في الجوامع للصلاة، خلال عهد الرسول(ص). وبينما لا توجد أحكام تملي على النساء الصلاة بالمسجد، لا يكفي ذلك لاستبعاد النساء من فضاء هام، يشكل عنصراً حاسماً من هويتهنّ الثقافية والدينية.

إضافة إلى خلق مساحات دينية مفتوحة، ينبغي أن يتم السماح للنساء بأخذ مواقع قيادية في الجوامع. أظهر التاريخ الإسلامي أمثلة عديدة، على نساء كانت لهنّ مكانة في الأنشطة الدينية، وعملن في مناصب عليا، وأثبتن حضورهنّ في واجهة العمل السياسي. من ذلك، عائشة زوجة الرسول (ص)، التي مثّلت مصدراً هاماً أسهم في فهم الإسلام بعد وفاة الرسول( ص). كان لها دوراً هاماً في الفقه الإسلامي. من ذلك أيضاً، حفصة أم المؤمنين، التي كانت الشخص الوحيد لذي يحمل نسخة القرآن الكريم، واؤتمنت بحفظ القرآن، في وقت كان حمل فيه القرآن دلالة حيوية هامة، كمصدر لجماعة المؤمنين بعد وفاة الرسول (ص).

نجحت النساء الباكستانيات في عصرنا، بخوض المعترك السياسي، والقانوني، والتعليمي. مع ذلك ساهم مفهوم “البردة” (على الأقل في الجانب الديني من المساحة العامة)، في جعل حضورهنّ غير مرئي.

إن المساحة السلبية المرتبطة بغياب المشاركة النسوية في الجوامع الباكستانية، تعد دليلاً واضحاً على التمييز الممنهج ضد النساء في المجتمع بصورة عامة. يمكن أن يعود غياب المشاركة النسائية إلى حدٍ ما، للمساحات الصغيرة والمحدودة الخاصة بالنساء في أماكن الصلاة. في هذا، دلالة على تفضيل الذكور في المساجد، بحيث يصبح المسجد وثيق الصلة بنظام الهيمنة المرتبطة بالسيطرة الابوية.

فيتم تكريس مساحات للذكور فقط،. ربما هناك بعض الاستثناءات كمسجد بادشاهي القريب من لاهور فورت، أو مسجد بحرية تاون الكبير، الموجود في منطقة سكنية مأهولة بآلاف الرجال والنساء، الذين يجتمعون في صلوات العيد. غير أن التعبد في العيد، ليس كافٍ للقضاء على عدم المساواة وحرمان المرأة من مكانها في الجامع. ومن الواضح أن توفير مساحات للنساء للصلاة في القطاع العام، ليس بأولوية للمؤسسة الدينية.

تقوم فكرة حصر النساء في الصلاة في مساحات خاصة ومغلقة على تأويلات تقليدية صادرة عن أئمة مسلمين. مقابل ذلك، يدعو التوجه التحديثي الإصلاحي إلى المساواة بين الجنسين، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. نلمس ذلك في المواقف الثورية الحالية لبعض العلماء المسلمين، مثل آمنة ودود، التي قادت مجموعات صلاة من الرجال والنساء في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما أن هناك تغيراً في هذا الصدد، على الصعيد الدولي، حيث يتم تكريس مصليات للنساء أيضاً، بل تم خلق جوامع للنساء فقط في عدد من الدول (مثل فرنسا وألمانيا والصين)، وتوجد هناك عدد من ألائمة من النساء. ولكن هذا يطرح من جديد مسألة تجسير هوة عدم المساواة بين النوعين، وتجذر النظام الذكوري المهيمن، من خلال فرض وتوطيد نظام الفصل بين الجنسين.

يقر دستور باكستان بوضوح على الحرية الدينية لكامل المواطنين. في هذا السياق، ربما حققت الحكومة نوعاً من المساواة على الصعيد الرسمي، بما أنها لا تمنع النساء من الذهاب للمساجد. في الوقت نفسه، ما زال ذلك امراً شكلياً فقط، ولا يمكن تعميمه على مدى تطور المجتمع. فعلى أرض الواقع، للأسف، لم تنجح الدولة الباكستانية في استيعاب الأوضاع والظروف، التي تحد من قدرة النساء على أخذ مساحتهم في المجال العام بالرغم من تكرار خطاب “الفرص المتساوية”. لتحقيق مجال عام مفتوح للجميع، على الدول اتخاذ تدابير فاعلة لرفع مكانة الفئات المحرومة. وفيما يخص الحرية الدينية، سيشمل التعريف الشامل لهذا الحق، مدى تحقق حضور النساء في المرافق الدينية. إن الدين عنصر هام في تشكيل هوية الشخص وثقافته، وحين يتم حرمان النساء من الحق في الحرية الدينية، يتم حرمانهنّ أيضاً من الحق في تحقيق الذات.

لن تتكلل مساعي الدولة في تحقيق المساواة الفعلية، ما لم يتم التعامل مع مسألة تهميش النساء في شتى الميادين. إضافة إلى ذلك، فإن الدولة حين تصيغ قوانين محايدة من حيث الجنس، وفي نفس الوقت لا تتعامل مع موضوع التهميش، فإنها تمارس التمييز ضد النساء بطريقة أخرى.

إن وجود سياسة إقصائية، يعزز السرديات القائمة على نظام قضائي محدد بيولوجياً، يقضي بأقصاء النساء إلى المساحة الخاصة ويعزز الفروقات بين الجنسين. مقابل ذلك، هناك أمثلة عديدة من المراحل المبكرة للتاريخ الإسلامي، التي بينت أن إقصاء المرأة من المشهد السياسي، والاجتماعي، والديني، لم يكن مستمداً من الاسلام. في واقع الحال، فإن التهميش كان ثمرة عمليات اجتماعية تم تعزيزها من خلال استخدام ديباجة الخطابات الأبوية المرتبطة بمآرب سياسية.

إن لاهور هي مدينة غامضة ومعقدة بامتياز، تشهد مختلف معالمها على ميلها لتحدي الابتكار والتغيير . مع ذلك، فإني مفعمة بالأمل ان بتبدل الحال. من يعلم؟ ربما نرى مسجد النمرة مليئاً بالنساء يوماً ما. فمن اسمه “النمرة” (أنثى النمر)، أنا واثقة بأنه في إحدى الأيام، سيكون هذا المسجد مثالاً على جرأة ومقاومة المرأة.


جدارية (المرا مكانا المقاومة) | رسم وتصوير: آلا ساتر. السودان، 23 أبريل، 2019

“كانت مشاركة النساء السودانيات في الانتفاضة ضخمة ومؤثرة. ولكن، من أجل الانضمام للحراك الشعبي، كان عليهن محاربة نظام تمييزي عميق الجذور يبدأ من المنزل. وهو نظام لا يسمح لهن بأن يكنّ جزءاً من أشياء كثيرة. وهذا يذكرنا لماذا تكون نضالات النساء أكثر تعقيداً، ولماذا تمتد مقاومة النساء أبعد من مجرد انهيار النظام ويصبح النضال هو الوضع المستمر؛ لأنه إلى جانب محاربة الدكتاتورية العسكرية الإسلامية، فإننا نحارب أيضاً منظومة اجتماعية تقوم على تقزيم أدوار النساء في المجتمع وتحديد مساحات تواجدهن وأدوارهن في المساحات العامة والخاصة. لذلك ليس من المستغرب على الإطلاق رؤية النساء في طليعة الثورة، فلدينا ذخيرة وافرة ومتراكمة من النضال تمتد لعقود ما قبل التاسع عشر من ديسمبر.”
#لم_تسقط_بعد #تسقط_بس sudanrevolts#
Instagram: @alaasatir


زهرة بجوة: هي محامية تعمل في مجال حقوق الإنسان، وباحثة في مجال السياسات القانونية. يدور اهتماماتها حول قوانين البيئة وحقوق المرأة.