هالة الكارب
في ذلك الوقت، كانت ود مدني من أكبر المراكز الحضرية في السودان، تحيطها قرى مشروع الجزيرة الزراعي المترامى الأطراف، والذي هاجر إليه الناس من كافة أنحاء البلاد سعياً وراء الإستقرار والبحث عن حياة جديدة. كان الحال آنذاك، فى النصف الثانى من سبعينات القرن العشرين، أفضل بكثير مما هو عليه الآن، على الأقل من وجهة نظر طفلة في التاسعة من عمرها. كان البيت الشاسع المساحة الذي نشأت فيه، يقبع على ضفاف النيل الأزرق، تظلله الأشجار القديمة الضخمة. لا أنسى أبداً شجرة المانجو العتيقة وظلها الذي لا تخترقه الشمس مهما إشتدت حرارتها. كذلك شجرتي الجوافة المتلاصقتين كأختين بفروعهن الممتدة تعانق إحداهن الأخرى. وكما هو الحال في كل منازل وسط السودان آنذاك، كانت الغرف والفرندات الواسعة البرحة منتشرة بلاتصميم واضح، مليئة بالناس وافدين ومغادرين طوال اليوم، باستثناء تلك الساعات القليلة ما قبل بزوغ الفجر. لم يكن هناك فاصل واضح ما بين داخل المنزل والشارع الموازي في حي المدنيين، أحد أقدم أحياء مدينة ود مدني. وفي وسط زخم إكتشاف الأشياء من حولي، كانت هناك شخصية واحدة تمسك بأطراف عالمي وعوالم الآخرين العديدين المتواجدين في البيت الكبير، تلكم هي جدتي التي كانت في ناظري، محور الأحداث ومركز دورانها.
غرفة جدتي وفرندتها الصغيرة من أكثر أركان المنزل راحة وترتيباً، تسكنها رائحة بخور التيمان الأليفة. كنت دائماً أحس وأنا في غرفتها ذات البرودة الطبيعية والسقف البلدي، الذي إصطفت أعواده الخشبية
في تلك الأيام، لم تكن النساء المسلمات في بلادي بحاجة إلى إخفاء ملامحهن، أو تغطية شعورهن، أو الخجل من هويتهن كنساء. ما أجملهن بثيابهن الملفوفة باناقة، ورؤسهن المرفوعة من مختلف الأعمار، يسرن في الشوارع العامة بأمان. كانت النساء من أمثال جدتي، واضحات، مرفوعات الرأس، يفرشن مصلياتهن على أرض الجامع، ويجلسن بإرتياح، مرئيات وحاضرات. وبعد الصلاة، كان الرجال والنساء يتصافحون في الفناء المحيط بالجامع ويتبادلون الحديث ويسيرون معاً عائدين إلى المنازل.
بٍِاتقان، بأنني في عالم مختلف محمية من حرارة الشمس الحارقة في الخارج. تفاصيل الغرفة ما تزال تسكن ذاكرتي حتى الآن، بخزانتها المعدنية الداكنة القابعة في الركن، تجاورها رفوف الكتب المجلدة، المصحف الضخم وكتب التفاسير، وأمهات كتب أخرى، مثل كتاب الإغاني للأصفهاني ذلك هو بعض ماتبقى في الذاكرة.
آنذاك كانت جدتي في منتصف الستينات من العمر، متوسطة الطول، خمرية البشرة، ولها عينان كبيرتان عسليتان، تضيئان وجهها المشلخ بشلوخ رفيعة تكاد لا ترى. آمنة بت محمد علي ود أبربعين المعروفة ب الحاجة، ووسط من أحبوها كانوا ينادونها بت محمد علي. ولدت في مدينة رفاعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وكانت من أوائل النساء اللاتي إلتحقن بمدرسة الشيخ بابكر بدري للبنات. وهي أول مدرسة من نوعها في السودان، إفتتحها الشيخ بدري في منزله في العقد الأول من القرن العشرين.
كانت لجدتي مسؤوليات عديدة في حياتها اليومية كإمراة عاملة ومسئولة عن رعاية العديد ممن كانوا يعيشون معها في المنزل. كانت تقوم بإشعال النار في الفجر لتحضير شاي الصباح لقاطني المنزل الكبير، والذين كان عددهم يتراوح بين 15 إلى 20 شخصاً من يوم لآخر، بما في ذلك الأطفال. العديد منهم كانوا ضيوفاً عابرين. وحده الله يعلم من أين أتوا، أو إلى أين هم ذاهبون بعد مغادرتهم بيت جدتي. البعض منهم عاش فى بيت جدتى لسنوات، تحديداً الطلاب والطالبات، ومن كانت لديه تجارة صغيرة بين مدن وضواحى البلاد. كان بعضهم أقارب وآخرون أصدقاء قدامى. كانت جدتي تتذكر أسماء الجميع، وتتأكد من أن كل منهم قد تناول الشاى والرغيف قبل مغادرة المنزل.
عادة، ومع إشراقة كل صباح جديد، تخرج جدتي من الباب الأمامي للمنزل متوجهة إلى طاحونة الغلال التي تمتلكها، والتي تحتل جزءاً من المنزل الكبير. تدخل جدتي إلى الراكوبة أمام الطاحونة لتجلس في الكرسى المجلد بالبلاستيك فى الركن، أمامها طاولة خشبية قديمة، عليها كراسة وقلم رصاص لتسجيل حسابتها. كانت الراكوبة دائماً نظيفة، ترش أرضيتها الترابية بالماء مرات عديدة أثناء اليوم لتبريد المكان وتقليل الغبار. تجلس جدتي تدير طاحونتها وتتجاذب أطراف الحديث مع العملاء وتقرأ الصحف اليومية، وتدخل يدها بين فينة وأخرى في جيب جلابيتها لتخرجقطعة حلوى لطفل أو طفلة عابرة، أو بعض النقود لسائل أو ذي حاجة ملحة، وتلبث على ذلك الحال حتى تحين صلاة العصر.
إلاّ أن أكثر الصور إنطباعاً في ذاكرتي، هي صورتها وهي في قمة أناقتها وبهائها، متوجهة إلى الجامع لأداء صلاة الجمعة، مرتدية توبها الأبيض التوتال الناصع وحذاءها الجلدي الأسود اللامع الذي كانت أطرافه تبرز من تحت جلابيتها الملونة وتبرز قسمات وجهها الوسيمة محاطة باطراف التوب ومساير شعرها المخضب بالحناء، غاية في اللطف. كانت جدتي تسير ببطء ورقة، ولكن بثبات حاملة مصلايتها الملفوفة تحت ذراعها، تعبق منها رائحة كولونيا سوار دي باريس معطرة الجو أمامها وخلفها.
وبالرغم من أن المسافة الفعلية بين المنزل والجامع ما كانت تتعدى الكيلومتر، إلا إن جدتي كانت تستغرق أكثر من نصف ساعة للوصول سيراً على الطريق الملئ بالأخاديد، مروراً بالمنازل المتاخمة له بأبوابها المفتوحة كما كانت العادة في ذلك الحين. كانت جدتي تقف لتحيي العابرين من وإلى داخل المنازل والجالسين على المصطبات. وتتمهل لإنتظار من تود مرافقتها من النساء إلى الجامع. كانت العديد من النساء يرافقنها، أما الرجال فقد كانوا يمرون بنا مسرعين ملقين التحية على جدتي بصوت عال الحاجة السلام عليكم”، فترد هي ورفيقاتها في كورال جماعي “وعليكم السلام”. هذا المشوار الممتع مع جدتي أمدني بأحساسيس من الثقة والأمان، كانت وما زالت معيناً يخضب مسيرة حياتي أملاً ومعنى.
في تلك الأيام، لم تكن النساء المسلمات في بلادي بحاجة إلى إخفاء ملامحهن، أو تغطية شعورهن، أو الخجل من هويتهن كنساء. ما أجملهن بثيابهن الملفوفة باناقة، ورؤسهن المرفوعة من مختلف الأعمار، يسرن في الشوارع العامة بأمان. كانت النساء من أمثال جدتي، واضحات، مرفوعات الرأس، يفرشن مصلاياتهن على أرض الجامع، ويجلسن بإرتياح، مرئيات وحاضرات. وبعد الصلاة، كان الرجال والنساء يتصافحون في الفناء المحيط بالجامع ويتبادلون الحديث ويسيرون معاً عائدين إلى المنازل.
حاجة آمنة هى قدوتي كإنسانة وإمرأة ومسلمة، إستطاعت هي ونساء مثيلاتها، أن يكافحن من أجل مكانتهن وإنسانيتهن في مجتمع تسود فيه مفاهيم قهر النساء. لها الرحمة، فقد عاشت حياتها ملء إرادتها، قدر ما إستطاعت، وذهبت إلى لقاء ربها راضية بسلام.