أيان خليف محمد: وُلِدَتْ وترعرعت في كينيا، وهي مُدَوِّنَة وناشطة تعيش في الصومال منذ ٢٠١٤. ولـ (أيان( شغف بحقوق المرأة وتعليم الأطفال ، وتعمل حالياً في منظمة غير حكومية مقرها الصومال تدافع عن السلام وحقوق الإنسان.
ماذا كُنْتِ ترتدين؟ وأين كُنْتِ؟ وكم كانت الساعة في ذلك الوقت؟ وما الذي دفعك إلى الخروج؟
هذه هي بعض الأسئلة العامة التي عادة ما تُوَجَّهُ إلى المرأة ضحية الاغتصاب عندما تجرؤ على الكشف عن الجُرم الذي تَعَرَّضَتْ له. وهي الأسئلة ذاتها التي سمعتها (عناب) الصومالية، البالغة من العمر ١٧ ربيعاً، عندما عَلِمَ والداها بخبر تَعَرُّضِهَا للاغتصاب.
ففي الصومال –كما هو الحال في الكثير من بلدان أفريقيا والشرق الأوسط– عادةً ما تُلَامُ الضحية وكأنها هي التي قامت –بمحض إرادتها– بوضع نفسها في موقع الخطر، وأنها تخاذلتْ عن حماية نفسها من الأذى.
لقد تَعَرَّضَتْ عناب للاغتصاب وهي لا تزال طفلة في الثالثة عشرة من عمرها لا تعي بمخاطر العنف الجنسي. وقد كانت عناب تعيش مع أسرتها في إحدى قرى الصومال الجنوبي، وحسب روايتها تقول عناب: “كنت معتادة على أخذ أغنام والدي للرعي بها يومياً، واللعب مع رفيقاتي في المساحات الظليلة التي لا تبعد كثيراً عن قريتنا. ولكن في ذلك اليوم بالتحديد لم يكن هناك شخص غيري بالمكان كما لم يكن هناك شخص كان بوسعه إيقافه عن استغلال براءتي وطفولتي.”
ففي ذلك اليوم، كانت عناب تقضي وقتها بالرسم على الأرض عندما اقترب منها ذلك الرجل. وتقول عناب: “جلس بالقرṿ مني وناولني مبلغ ألفي شلن٢ صومالي حيث بدا لي في ذلك الوقت وكأنه مبلغٌ كبيٌر. وقد كنتُ طفلة لا أعرف أيَّ شيء عن المال ولم أحصل في حياتي على مبلغ بذلك الحجم (هكذا تتذكر عناب الموقف بصوت باكٍ. (
ثم بدأ بعد ذلك في تَحَسُّسِ جسدي. لا أزال أذكر ذلك بوضوح تام. فقد ذكر لي بأننا بصدد فعل شيء ما معاً نظير المال الذي أعطاني إياه، ولكن علَّي ألا أُخْبِرَ احداً بذلك، وأن يكون ذلك سراً بيننا.“ وبالنسبة لطفلة في الثالثة عشرة من العمر فإنَّ امتلاك مبلغ من المال تتصرف فيه كيفما شاءت هو أمر مثير جداً. وبالنسبة لعناب لا يوجد سبب يجعلها ترفض به العرض من رجل تعرفة منذ ولادتها وتناديه بلقب (خالي.(
كيف كان لي أن أعلم بأنه كان ينوي إيذائي؟ فقط لو كان هناك شخص أخبرني وأعلمني أنه بقبولي لذلك المبلغ المالي، كُنْتُ بصدد التنازل عن مستقبلي، لكنتُ –في ذلك الوقت– رفضتُ وهربتُ بعيداً بأسرع ما يمكن“، هكذا قالت بحسرة، ثُمَّ أضافت: “في تلك اللحظة كل ما أذكره هو أنني كلما حاولت أن أصرخ كان يضع يده على فمي. وأخيراً غادر لكنه حذَّرَنِي مراراً وتكراراً بعدم إفشاء ما حدث لأيِّ شخص.”
فالعنف الجنسي منتشر بصورة كبيرة في الصومال، ولا تُعْتَبَر حالة عناب حدثاً شاذَّاً أو مُنْعَزِلَاً.
إن عدم المساواة وغياب النظام العدلي الفاعل واستحكام التقاليد المظلمة، إضافة إلى عشرات السنين من الصراع، كلها عوامل تُعَرِّضُ النساء والفتيات بصفة خاصة للعنف الجنسي.
الخوف من الاغتصاب من قبل العصابات المسلحة أو قوات الأمن أو الأقرباء أصبح واقعاً يومياً بالنسبة للكثير من النساء والفتيات في الصومال. وأصبح العنف الجنسي أمراً طبيعياً إلى حد كبير.
بعد أن تعرّضت عنّاب للاغتصاب، عادت إلى المنزل سيرًا على الأقدام وأخبرت والدتها بأنها تشعر بألم بين ساقيها. تقول: “لم أذكر أي شيء عن ما حدث فعلاً. ربما لم أعتبره أمرًا مهمًا. قدمت لي والدتي ماءً دافئًا للاستحمام، قائلةً إن الألم ربما كان بسبب المشي اليومي إلى المراعي. وبعد بضعة أيام، عاد كل شيء إلى طبيعته وكأن شيئًا لم يكن.”
ولكن، بعد بضعة أشهر، بدأت عنّاب تشعر بالتعب والضعف. اشتكت من شعور بوجود شيء يتحرك داخل بطنها. تضيف: “اعتقد والدي أنني أعاني من ديدان معوية. ذبح لي خروفًا ظنًا منه أن اللحم سيساعدني على التخلص من الديدان، لكن لم يتغير شيء.” لم تكن عنّاب قد تلقت أي تعليم عن الجنس، ولم تكن تدرك أنها حامل حتى اكتشفت والدتها الكفيفة ذلك بالصدفة. شعرت الأم بركلة الجنين بينما كانت تضع يدها على بطن عنّاب. تقول: “في البداية لم تخبرني والدتي بشيء لأنها لم تكن متأكدة، لكن قابلة في قريتنا أكدت أسوأ مخاوفها.”
في الصومال، يُعتبر الحديث عن الجنس من المحرمات ولا يُناقش بشكل علني. يُنظر إليه على أنه شيء “للكبار فقط”، وإذا سُئِل عنه، تكون الإجابة دائمًا: “ستعرفين في ليلة زفافك.”
معظم الفتيات في عمر عنّاب يفتقرن إلى الفهم الأساسي للجنسانية والصحة الإنجابية. بالإضافة إلى ذلك، يلجأ المزيد من المراهقين والمراهقات في الصومال إلى الإنترنت للبحث عن معلومات عن الجنس، مما يؤدي إلى التعرّض المتزايد للمواد الإباحية وتكوين مفاهيم خاطئة عن الجنسانية كنتيجة لذلك.
لقد تَحَوَّلَتْ حياة عناب –كما وصفتها هي– بعد ذلك الحدث إلى (جحيم(، فمنذ اللحظة التي عرف فيها والداها بأنها حامل كانت تتعرض للضرب يومياً ويُطْلَبُ منها كشف اسم والد طفلها (ابن الحرام.( وكانت عناب بصفة خاصة غير مُدْرِكَةٍ للسبب أو الكيفية التي أصبحت بها حامل. وبعد أيام من الضرب والحرمان من الطعام، أجبرها والدها على تناول السُّم حتى تتخلص من الجنين الذي –بحسب الوالد– لا طائل منه سوى جلب العار للعائلة.
إنَّ النساء اللائي ينجبن خارج إطار الزواج الشرعي يتعرضن للعزلة في المجتمع الصومالي التقليدي ويُرْفَضْنَ من قبل الأسرة والأقارب؛ فالحمل الذي يحدث خارج إطار الزواج يُعْتَبَر مصدراً للعار ليس للأسرة فقط، بل وللعشيرة كلها. وفي أغلب الأحوال لا يختلف رَدُّ الفعل إذا كان الحمل قد حدث بسبب علاقة تراضٍ أو بسبب الاغتصاب. وفي البلاد التي تُعْتَبَر فيها الأمهات غير المتزوجات مُذْنِبَات أو يُصَوَّرْنَ كبائعات هوى تضطر أغلب النساء إلى الهروب من أُسَرهِّنَّ، وينتهي الأمر بالبعض منهن إلى حياة التشُّرد بينما يجنح البعض الآخر إلى التخلي عن المواليد عن طريق الإجهاض عبر الطرائق التقليدية الخطرة مما يودي عادة بحياة الغالبية من النساء، أو إلى الانتحار تجنُّباً للذل والوصم.
وفي حالة عناب، فقد آثرت الهروب بعد أن أُجْبِرتْ على تناول السُم. وتقول: “لم أحتمل الوضع أبداً بعد ذلك؛ لقد حاولتُ الحصول على مكان ألجأ إليه، فذهبتُ إلى بيت عمتي التي كان تعيش في مدينة قريبة. وأصبحتْ عمتي حاميتي، وعن طريق مساعدتها بدأتُ أستوعب ما حدث لي، وتذكَّرتُ ذلك اليوم المشؤوم الذي قاد إلى تغيير حياتي للأبد.”
وحتى بعد أن تكشَّفَت الحقيقة وعرف الجميع أنَّ عناب قد تَعَرَّضَتْ للاغتصاب من قبل خالها شقيق والدتها، إلا أنها لم تتلقَ الدعم اللازم من والديها اللذين قررا تجاهل الجُرم الذي اُرْتُكِب في حق ابنتهما تجنُّباً للعار. “لقد كانا يودان تجنُّب حالة الوصم المزدوجة: اغتصابي وحقيقة أنَّ المغتصب كان هو خالي“، ذَكَرَتْ ذلك بحسرة بادية.
أنْجَبَتْ عناب طفلها في بيت عمتها، حيث وُلِدَ مريضاً يعاني من آثار السُّم الذي أُجْبِرتْ على تناوله أثناء فترة الحمل. وتقول: “لم يتحسَّن وضعي بعد الولادة، بل ازداد تأزّماً لأنني كنتُ أشعر بالحرج كلما خرجتُ من المنزل، وكان الناس يشيرون نحوي وينظرون إلَّي بازدراء، فشَعَرْتُ بالعزلة. وأحياناً كنتُ أفكِّرُ في التخلي عن طفلي لأنني شعرتُ وكأنه هو السبب في تعاستي. لكن يرجع كل الفضل لعمتي التي ما زالت تُذَكِّرُني بأنَّ الأطفال أبرياء وهبة من الله ويجب أن لا يُعَانُوا بسبب أفعال الآخرين.”
انتهى الأمر بعناب بالزواج من رجل كهل كان على عِلْمٍ بكل إشكالاتها. وعلى الرغم من هذا التحول التراجيدي في حياتها إلا أنَّ عناب تعتبر نفسها محظوظة، وتقول: “أنا على الأقل محظوظة لأنَّ معظم الفتيات اللائي يَتَعَرَّضْنَ للاغتصاب أو الإنجاب خارج الزواج لا يحظين بالزواج، كما أنني سعيدة لأنَّ ابني وجد شخصاً يناديه بـ(أبي.”(
و كما يتضح من قصة عناب المأساوية، فدلالة (المرأة المحظوظة( في الصومال تصبح –للأسف– مسألة في غاية النسبية.
أيان خليف محمد
لا تعليق