زواج الطفلات في السودان ما بين تعنت السلفية وآفاق الإصلاح


بقلم: ليف تونيسين 

هناك 15 مليون فتاة تُزَوَّجُ سنويّاً قبل بلوغ سن الـ 18 سنة، ويحتل السودان صدارة الدول الأفريقية في زواج الطفلاتi. ففي السودان فإنَّ 10.7% من النساء في الفئة العمرية 15-49 يُزَوَّجنَ قبل بلوغ سن الـ 15 سنة، في حين تُزَوَّجُ 38% منهن قبل بلوغ سن الـ 18 سنةii. 

وفي الوقت الذي نجد فيه أنَّ ثلثي الدول الأفريقية قد نصَّت في تشريعاتها على أن يكون الحد الأدنى لسن الزواج هو سن الـ 18 سنة أو ما فوق، أدرجت الجهات الحكومية المتنفذة في السودان الأمر في جدول أعمالها التشريعية، ولكن محاولات الحكومة لتحديد الحد الأدنى لسن الزواج بـ18 سنة قُوبل باحتشاد ديني محافظ مناهض يعتبر زواج الأطفال أمراً أقرته الشريعة. وكذلك تعرضت محاولات الحكومة للنقد من قبل الحركة النسوية في السودان التي رأت أنَّ الإصلاح التشريعي غير كافٍ لتوفير الحماية القانونية للطفلاتiii. 

قانون الأسرة السوداني للمسلمين  لسنة 1991: 

عَمِلَ قانون الأسرة السوداني للمسلمين لسنة 1991 على تقنين زواج الأطفال وشَجَّعَ على ممارسته. ويجادل الإسلاميون المحافظون والسلفيون وبعض علماء الدين بأن زواج الأطفال من شأنه أن يمنع العلاقات الجنسية المُحَرَّمَةiv. ونظراً لأنَّ الطفلاتحسب منظورهم–  تتطور لديهن الحوافز الجنسية عند البلوغ، لهذا السبب يدَّعِي هؤلاء بأنَّ الزواج المُبَكِّر من شأنه أن يمنع وقوع الزنا. ووفقاً لوجهة النظر الاسلامية، فإنَّ تفشِّي الفتنة الجنسية وسط المجتمعات الحديثة اليوم مرجعه إلى التخلي عن الزواج المُبَكِّر في المجتمع الغربي. ويعتقد هؤلاء بأنه من شأن الزواج في هذه الحالة أن يضمن عدم حدوث علاقات الجنسية خارج المؤسسة الزواجية. ولذا يرى هؤلاء أنَّ أنسب فترة للزواج هي بمجرد الوصول إلى سن البلوغ. ولدعم مثل هذا الموقف يشير هؤلاء إلى حديثٍv يُقرُّ بخطوبة الرسول محمد من عائشة عندما كانت في السادسة من عمرها، ولكن تؤكد بعض الأدلة إلى أنه لم يقترب منها إلا بعد بلوغها التاسعة من عمرها ووصولها مرحلة البلوغ. 

التناقض بين قانون الأسرة لسنة 1991 والتزامات الدولة الإقليمية والدولية: 

هناك تناقضات جسيمة بين قانون الأسرة السوداني وقانون الطفل لسنة 2010 من ناحية،  وبين دستور السودان لسنة 2005vi واتفاقية حقوق الطفل من ناحية أخرىvii. ففي حين  ينص قانون الطفل وفقاً لاتفاقية حقوق الطفل- على انتهاء فترة الطفولة وبداية مرحلة الرشد عند سن الثامنة عشرة، نجد أنَّ قانون الأسرة لسنة 1991 يسمح صراحة للوصي الذكر بعقدزواج تمييزي [للقاصر]” في حالات المصلحة الغالبة“، وبإذن من القاضي. وهنا يُحَدِّدُ القانون سناً محددة وينص على أنَّالتمييز يتم تحقيقه في سن العاشرة”، وبالتالي جعل المُشَرِّعُ لقانون الأسرة سن العاشرة هي الحد الأدنى الذي يمكن فيه التعاقد مع شخص على الزواجviii. 

آفاق الإصلاح الحكومي – الحد الأدنى للزواج هو سن الثامنة عشرة 

يُعَدُّ قانون الطفل لسنة  2010 هو الخطوة الأولي نحو رفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى 18 سنة. ويُعَرِّفُ القانون الطفولة بانها  تمتد حتي سن الثامنة عشرة، ويُشَكِّلُ هذا علامة فارقة وحدثاً مثيراً للجدل بدرجة كبيرة، وذلك نظراً لأنَّ الفقه الإسلامي التقليدي يُحَدِّدُ الطفولة عادةً بسن البلوغ. ويشير البلوغ في التقاليد القانونية الإسلامية إلى الشخص الذي بلغ مرحلة النضج أو البلوغ. أمَّا بالنسبة للفتاة فتبلغ بمجرد بدء نزول الدورة الشهرية أو في سن مبكرة عندما تبلغ التاسعة من العمر. 

ولا يعتقد المصلحون الإسلاميون الذين دفعوا بسن البلوغ حتى سن الثامنة عشرة أنَّ هذا الموقف يناقض الإسلام أو دستور 2005. بل على العكس من ذلك، فهم يعتمدون في موقفهم هذا على تفسير إسلامي لسن الرشد أكثر تقدمية ويجادلون وفقاً لذلك بأن الإصلاح الإسلامي يتماشى مع مقاصد الشريعة وقانون الحقوق المنصوص عليه في دستور 2005، وكذلك مع اتفاقية حقوق الطفل. وبحسب مدارس الفقه السنيّة كافة، فإنّه يتحتم على الشخص من أجل الحصول على الأهلية القانونية والقدرة على إبرام التعاقدات بلوغ سن الرشد أو النضوج الفكري حتى يتمكن من التعامل مع ممتلكاته وشئونه الخاصةix. 

 وبالتالي فإنه وفقاً للمصلحين الإسلاميين فإنَّ مجرد الوصول إلى سن البلوغ (أو النضج الجنسي) بدون بلوغ شرط الرشد أو النضج الفكري لا يؤهل الشخص للدخول في عقد الزواج. وعلاوة على ذلك فإنهم يدعون إلى أنَّ الحد الأدنى لسن الزواج -مع أخذ كل من البلوغ والرشد في الاعتبار- ينبغي أن يُحَدَّدَ بسن 18 سنة. وتشرح أميرة الفاضل (إحدى المدافعين عن الإصلاح ووزيرة الشئون الاجتماعية السابقة وممثل السودان في الاتحاد الأفريقي) تشرح -في مقابلة معها- موقف الإصلاحيين قائلة: “إنَّ سن الثامنة عشرة كحد أدنى للزواج لا يتنافى مع قوانين الشريعة؛ فقد وافانا العلماء المسلمون بفتوىx تدعم الثامنة عشرة كحد أدني للزواج. […] ومفهوم البلوغ في الإسلام  يشير إلى الشخص الذي بلغ مرحلة النضج وتحمّل المسؤوليات كاملة بموجب القانون، لكن النضج في الإسلام يجب ألا ينحصر فقط في علامات البلوغ (النضج الجنسي)، بل [لابد أن يتضمن] النضج الفكري. وليس هناك من سبب يمنع تحديد النضج الفكري بسن 18 سنةxi“. 

وبحسب إفادات بعض الإصلاحيين الحكوميين الذين أجريت معهم مقابلات، كانت الاستراتيجية الصريحة للدولة هي عدم إدراج الحد الأدنى لسن الزواج ضمن قانون الطفل لسنة 2010؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يكون مثيراً للجدل بدرجة كبيرة. ومع ذلك -وبما أنَّ قانون الطفل أصبح يتضمن أحكاماً تحمي الأطفال من جميع أشكال التمييز في المادة 5 (ج)- يرى الإصلاحيون بأنَّ ممارسة زواج الأطفال قد تم تقنينها بالقانون. وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ قانون الطفل يجب أن يكون له السيادة على جميع القوانين الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، تنص المادة 3 من القانون سابق الذكر على أنَّ “أحكام هذا القانون تسود على أيِّ حكم آخر في أيِّ قانون آخر، عند عدم اتساقه، إلى حد إزالة هذا التناقض”. ووفقاً لوجهة نظر الإصلاحيين، فإنَّ هذا يعني حتمية  إصلاح  قانون الأسرة لسنة 1991 كخطوة  طبيعية، وجعل سن الثامنة عشرة بمثابة سن الرشد بموجب قانون الطفل، باعتبارها الحد الأدنى لسن الزواج. وإذا كان زواج الأطفال قد أُعتبر شكلاً من أشكال التمييز، فإنَّه بذلك يتناقض بوضوح مع قانون الطفل لسنة 2010. وهكذا حاول الإصلاحيون إصلاح زواج الأطفال من خلال الباب الخلفي على أمل ألا يلاحظ ذلك الناشطون السلفيون. 

ومع ذلك، أصبحت سيرورة الإصلاح أكثر إشكالية مما توقعه الإصلاحيون الحكوميون؛ فبمجرد إدراج بند الإصلاح في سياق إصلاح قانون الأسرة وحقوق المرأة بدلاً من حقوق الطفل  أصبح زواج الطفلات موضع جدل ونزاع. وقد أدَّى ذلك إلى الاحتشاد المضاد  لعملية الإصلاح من قبل المحافظين داخل الحزب الإسلامي الحاكم وخارجه. ومن ناحية أخرى تَعَرَّضَ مقترح  الإصلاح المُقَدَّم من الحكوميين والموالين للحزب الحاكم  أيضاً لانتقادات واسعة النطاق من قبل الحركة النسوية  في السودان. 

 

 

 

التعبئة المضادة من قبل المحافظين الدينيين: 

بالطبع كان المحافظون الدينيون من أوائل المعارضين لأيِّ تعديل في زواج الأطفال عندما تحدَّى مصلحو الحكومة تفسيرهم للشريعة. وقد اشتملت مجهودات التعبئة المضادة على بيانات عامة في وسائل الإعلام وفي البرلمان بواسطة كل من السياسيين المحافظين والسلفيين، بالإضافة إلى محاولات التقاضي بواسطة المجموعات السلفية. و يتركَّز المناهضون للإصلاح في الكتلة المحافظة داخل الحزب الحاكم التي يقودها عضو البرلمان السابق (دفع الله حسبو) الذي تربطه وشائج قوية مع الحركة السلفيةxii. ففي رأي حسبو: “وفقاً للإسلام يمكن للفتاة أن تعطي الموافقة على الزواج في سن البلوغ”xiii. ومن ضمن الأشياء التي قام بها هي محاولته هو واتباعه الاحتكاك بالإصلاحيين الحكوميين خلال مداولات جلسات البرلمان وفي وسائل الإعلام، وبصفة خاصة قاموا بملاحقة أميرة الفاضل واتهامها بأنها تتبع الأجندة الغربية بشكل أعمى وأنها قد اصبحت بذلك علمانية، ذلك التعبير الذي يحمل مدلولات سالبة بين أرباب الحركات الإسلامية في السودان . 

وقد تحركت السلطات الدينية أيضاً -بما في ذلك إحدى الهيئات الدينية البارزة في السودان- بسرعة ضد عملية إصلاح زواج الأطفالxiv. فعلى سبيل المثال، قام رئيس هيئة علماء السودان شبة الحكومية السيد محمد عثمان صالح، بمباركة زواج الطفلات أمام الملأ، وأفادت التقارير بأنه قد أشار قائلاً: “بأن الإسلام يشجع الشباب على الزواج حماية لهم من الشذوذ الجنسي ومخاطر العزوبية من أجل سعادتهم والمحافظة على التكاثر”xv. 

وعلى الرغم من مجهودات الإصلاحيين، إلا أنَّ مناهضة رفع سن الزواج إلى سن الثامنة عشرة لا زالت قوية إلى الحد الذي بدأ فيه بعض نشطاء المحافظين المطالبة بإلغاء قانون الطفل لسنة 2010. 

 موقف الحركة النسوية السودانية خارج دائرة السلطة 

في حين تؤيد الناشطات السودانيات رفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى 18 سنة، إلا أنهن يرين أن يكون ذلك جزءاً من الإصلاح الشامل لقانون الأسرة لسنة 1991.  

ومن منظمات المجتمع المدني الرائدة في حملة الإصلاح القانوني هي (المنظمة السودانية للأبحاث والتنمية) التي تُشَكِّلُ جزءاً من الحملة الدولية “فتيات لا عرائس”. وبحسب وجهة نظر الناشطات النسويات، يُعَدُّ زواج الاطفال انتهاكاً ضد المرأة كما هو منصوص عليه في إعلان القضاء على العنف ضد المرأة (1993)،  وبالتالي، فإنَّ الإصلاح الشامل لقانون الأسرة يُعَدُّ الخطوة المفتاحية للقضاء على مثل هذا الانتهاك. وقد ابتدرت الناشطات النسويات حواراً حول الجوانب التمييزية في قانون الأسرة المسلمة في مطلع العام 2000 xvi. و قبل عدة سنوات قامت المنظمة السودانية للأبحاث والتنمية بصياغة قانون بديل للأسرة يُعْرَفُ باسم: (قانون عادلة)، يهدف إلى تعزيز المساواة بين الجنسين من أجل دعم الحقوق المدنية للمرأةxvii. 

وتعتقد العديد من الناشطات النسويات بأن الكثير من الجوانب المتعلقة بالزواج  بحاجة إلى مراجعة وتعديل. وتؤكد الناشطات النسويات أنَّ مجرد رفع الحد الأدنى لسن الزواجكما يقترح الإصلاحيون من الحزب الحاكم- لن يكون له سوى تأثير ضئيل ما دام قانون الأسرة المسلمة ينص على أن للولي الذكر سلطة التعاقد في الزواج في حالتي كل من النساء البالغات والفتيات القُصَّر. وعليه، ما لم تكن المرأة قادرة على التعاقد بنفسها في الزواج، فسوف تظل قوامة الرجل ووصايته جاثمة علي صدور النساء ومعيقة لقدرتهن على اتخاذ القرار 

 

وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ قانون الأسرة الحالي لسنة 1991، لا يسمح بمبدأ نقض الزواج عند بلوغ سن الرشد كما هو شائع ضمن الفقه الحنفيxviii. ففي حال السماح بذلك يحق للفتاة التي تصل إلى سن البلوغ/الرشد رفض عقد الزواج الذي تم نيابة عنها عندما كانت قاصر. وبحسب د. عائشة الكارب، رئيسة المنظمة السودانية للأبحاث والتنمية:  “إنَّ النقطة الحاسمة المتعلقة بزواج الأطفال هي التخلص من الولايةxix“. 

وعلى الرغم من أنَّ الناشطات النسويات قد رحبن بتحرك الحكومة لتشريع سن 18 حداً أدنى لسن الزواج، إلا أنهن ما زلن حذرات تجاه جهود الإصلاحيين من النظام الحاكم بدعوي أنَّ الإصلاح  لن يكون له سوى تأثير ضئيل ما لم تُلغَى الولاية في الزواج. 

 

ليف تونيسين مديرة أبحاث فى معهد كريستيان ميشلسن، بيرغن، النرويج. وهي عالمة في مجال العلوم السياسة تهتم بالأبحاث عن المرأة والسياسة والإسلام في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما قامت بنشر مقالات دولية مع دور نشر مثل: دار نشر جامعة ديوك، وروتليدش، وبريل، ودار نشر جامعة أكسفورد، وبالقريف ماكميلان، وتايلر فرانسيس. وتخصصت الكاتبة في شئون السياسة السودانية منذ أكثر من عشر سنوات، حيث أجرت العديد من الأبحاث الميدانية، بالإضافة إلى عملها محاضرة في جامعة الأحفاد للبنات بأمدرمان، السودان. 

 

لا تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *